ما بعد يانوكوفيتش :
تحديات التحول الديمقراطي في أوكرانيا
يبدو أن الانتفاضة في كييف قد وصلت إلى نهايتها بتوصل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش والمعارضة إلى اتفاق تحت إشراف وزراء خارجية دول بولندا، وألمانيا، وفرنسا ليصبح البرلمان في وضع المسئولية الفعلية الآن، وهو الذي سيقرر مَنْ يكون وزيرًا، ومتى تُجرى الانتخابات، وما إذا كان سيقيل القضاة، وهل سيمكنه إقالة الرئيس دون مساءلة ومحاكمة أم لا، وكل تلك الأمور باتت موضع نقاش الآن.
في هذا السياق، يرى المحلل والكاتب السياسي جورج فريدمان، في تحليل نشره موقع"ستراتفورد" الأمريكي المعني بالدراسات الاستخباراتية والسياسية، أن ما يثير الاهتمام في تدخل وزراء خارجية بولندا، وفرنسا، وألمانيا هو تجاهل مفاوضاتهم لدستور أوكرانيا لأغراض عملية، معتبرًا ذلك بمثابة سابقة مثيرة للاهتمام. لكن بالنسبة لأوكرانيا، لم يكن للدستور ذلك المظهر التقليدي الذي يكون عليه الدستور الحقيقي، ولن يترحم على يانوكوفيتش سوى القليل.
انتفاضة تعزل الرئيس
ويتساءل الكاتب ما إذا كان عزل يانوكوفيتش بانتفاضة جديدة سيُحدث فرقًا حقيقيًّا في أوكرانيا أو العالم أم لا. فهناك قيادة جديدة مؤقتة، برغم أنها قيادة منقسمة، ولم تظهر الفصائل بشكل كامل بعد. وبحسب فريدمان، فإن تأثير التناحر سيؤدي إلى تحقيق الوحدة في كييف لفترة من الوقت، ولكن ستعاود الأيديولوجية والطموح والعداوة الظهور في الوقت المناسب، وهو ما سيجعل من حكم أوكرانيا أمرًا صعبًا كما كان في الماضي، لا سيما بسبب الخلافات العميقة بين النازيين الجدد والليبراليين والجماعات الموجودة بينهما. لذا، من الصعب تشكيل حكومة وحدة وطنية.
كما يطرح الكاتب مسألة أخرى حول ما سيحدث في المرة القادمة التي تقتحم فيها الحشود المباني الحكومية. فقد تم تدشين سابقة تغيير الحكومات أو الأنظمة باليد، أو بالأحرى، جرى ذلك خلال الثورة البرتقالية عام 2004. في مرحلة ما، سيجتمع حشد كبير، ويحتل المباني. وإذا فتحت الحكومة النار، فمن يُطلقها هم مجرد وحوش.
ويؤكد فريدمان أنه يعني هذا الكلام حرفيًا، وليس فيه أي قدر من السخرية. فإذا سمحت الحكومة لنفسها بالعجز أمام المتظاهرين، فكيف يمكن أن تتحمل مسئولياتها الدستورية؟ إن الدستور الأوكراني، الجديد أو القديم، لا معنى له، برأي الكاتب، لأن الأوكرانيين لن يتحملوا مشقة اتباعه، ولأن القوى الأجنبية ستضغط عليهم لينحرفوا عن الديمقراطية الدستورية من أجل إنشاء ديمقراطية جديدة.
وناقش الكاتب التبعية لروسيا، ومفهوم القلة الحاكمة في أوكرانيا، مشيرًا إلى أن حكومة يانوكوفيتش كانت فاسدة حتى النخاع، ولن يترحم عليها أحد. ولكن معظم حكومات أوكرانيا ستكون فاسدة حتى النخاع، ويرجع ذلك جزئيًا لعدم وجود تقليد يفضي إلى احترام القانون، وإلى الطريقة التي تم اتباعها في عملية خصخصة الممتلكات.
ويتساءل فريدمان: كيف يمكن أن يكون هناك تقليد قانوني في بلد تردَّى به الحال ليكون إقليمًا لدولة أخرى، ويعد جوزيف ستالين أحد حكامه؟ لقد تمت الخصخصة، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، فجأة بقواعد غامضة أعطت مميزات للأسرع والأغلظ. يملك هؤلاء الناس الجزء الأكبر من أوكرانيا الآن. ومهما احتقرتهم الجماهير، فلا يمكن الإطاحة بهم. إن القلة الحاكمة، وهو ما يُطلق على الأغنياء في الاتحاد السوفيتي السابق، يتمتعون بالحرية، ويمكنهم القضاء على منتقديهم أو شراء صمتهم بالمال. الشيء الوحيد الأقوى من المال هو السلاح، ولكن السلاح مكلف على صعيدي الأنفس والأموال.
ويتشكك فريدمان في أن تتمخض الثورة الأوكرانية عن ولادة ديمقراطية ليبرالية سريعًا، مستشهدًا بما حدث في الربيع العربي الذي حمل آمالًا عريضةً، لكن نتائجه جاءت مخيبةً للآمال. كان هناك أمل حقيقي في التغيير، وافترض المراقبون أن التغيير كان لتحقيق الديمقراطية الليبرالية. ربما ستأتي الديمقراطية فيما بعد. فأحيانا ما كان التغيير إلى نوع مختلف جدا من الأنظمة. كان الموقف عبارة عن قادة فاسدين يحكمون جنودًا متوحشين.
وإذا كان النظام والجنود أشرارًا، فإن منطق قصة الخير والشر هذه يقتضي أن يكون ضحاياهم الأخيار.
لكن ليس الواقع بهذه البساطة، فعادة ما تكون الحشود منقسمة إلى العديد من الفصائل، وتجمعها فقط العاطفة والغضب الموجه ضد النظام، وتكون العواقب غير متوقعة، بحيث لا تقودهم إلى ما قصدوه في البداية.
إلى متى ستدوم الوحدة بين الثوار؟
تناول الكاتب وحدة الميدان، وكيف تنقسم بعد ذلك لاختلاف الأيديولوجيات وتنافسها، مؤكدًا أن أعمق رمز للثورة، وأكثرها إشكاليةً، هو أن الناس في الميدان يتحدثون عن الشعب ككل. وأوضح فريدمان أن الافتراض الذي خرج به وزراء الخارجية الثلاثة من المفاوضات التي جرت بين زعماء المتظاهرين الثلاثة والرئيس هو أن قادة الاحتجاجات كانوا أكثر إخلاصًا في تمثيلهم للشعب من الرئيس المنتخب.
ويعلق فريدمان قائلًا: "ربما كانوا كذلك في هذه الحالة، ولكنه افتراض غير مؤكد". لماذا؟ لأن هناك أجزاء من أوكرانيا تشعر بغضب مرير مما يجري في كييف، فقد رُفع العلم الروسي فوق قاعة مدينة سيفاستوبول، التي تقع في شبه جزيرة القُرْم في الجنوب، خلال عطلة نهاية الأسبوع. وتنتمي شبه جزيرة القُرْم تاريخيًا إلى روسيا، فقد انتزعها نيكيتا خروشوف من روسيا، وأعطاها لأوكرانيا في عام 1954. لم يعجب الروس الذين يعيشون في القُرْم أن يكونوا جزءًا من أوكرانيا، ولم يمثّلهم المتظاهرون في المفاوضات، كما أنهم لم يمثّلوا كل من يعيشون في الجزء الشرقي من البلاد، حيث يسود الحديث بالروسية، ويقترب هذا القطاع من روسيا اقتصاديًا وثقافيًا.
من هنا، يطرح جورج فريدمان نوعين من الأسئلة: الأول هو ما إذا كانت هناك وحدة وطنية كافية في البرلمان الأوكراني للقيام بما يجب عليهم فعله الآن، بمعنى تشكيل حكومة أم لا. اختفت الفصائلية تحت موجة الحماس اللحظية، والتي ستظهر قريبًا بطرق جديدة. لم يكن يانوكوفيتش يعدم الأنصار كليةً، لأسباب وجيهة أو غير وجيهة. يشعر أنصاره بالمرارة بنتائج ما حدث، ويراهنون على الوقت. بالإضافة إلى ذلك، تنسج القلة الحاكمة شباكها، غير أن هناك العديد من المشرعين الواقعين في حبائلها بالفعل، وبعضهم سعيد بذلك، والبعض الآخر غير سعيد. إن القيود الأساسية التي شكّلت حكومة يانوكوفيتش لا تزال موجودة، ويمكن أن تخلق يانوكوفيتش جديدا للخروج من بين أكثر الأوكرانيين استنارة.
السؤال الثاني هو ما إذا كان بوسع الأوكرانيين الإبقاء على وحدتهم أم لا. كان الانقسام بين المناطق التي تتجه نحو الغرب، والأخرى التي تتجه نحو روسيا موجودًا منذ البداية. في الماضي، حاولت الحكومات تحقيق التوازن بين هذين المعسكرين.
وقد أشار وزراء الخارجية الثلاثة وقادة التظاهرات إلى أن أيام وضع القُرْم والمنطقة الشرقية من أوكرانيا التى كانت في الحسبان قد ولّت. على أقل تقدير، لم يكن في المفاوضات تمثيل لمصالحهم. يمكن إعادة إحداث توازن لتلك المصالح في البرلمان، أو يمكن رفضها. وإذا حدث رفض هذه المصالح، فسوف ينقسم الأوكرانيون إلى قسمين. وإذا ما حدث ذلك، فماذا ستكون العواقب الاقتصادية والاجتماعية؟ إذا عمل البرلمان على استيعاب الجانبين ومصالحهما، فكيف يمكن أن يتجنب الحصول على يانوكوفيتش أكثر رقةً وتعاطفًا؟ يتساءل الكاتب.
دوافع التدخل الغربي
سلط فريدمان الضوء على الدوافع وراء التدخل الغربي في الأحداث التي وقعت في تركيا، مشيرًا إلى أن ما حدث في أوكرانيا كان ذا أهمية بالغة لكل من الألمان، والفرنسيين، والبولنديين، والأميركيين الذين اجتمعوا معًا على التعاطف مع المتظاهرين، والعداء ضد يانوكوفيتش.
ومن المؤكد أن هناك اهتماما من جانب الروس، الذين يرون أن الحفاظ على وجود دولة محايدة على الأقل في أوكرانيا أمر ضرورى لمصالحهم القومية. وبحسب فريدمان، فإن هذه الأزمة برمّتها بدأت عندما قرر يانوكوفيتش توطيد علاقته بالاتحاد الأوروبي. كان هذا القرار هو ما أثار المظاهرات، التي تطورت، بعد القمع العنيف، من الرغبة إلى إقامة علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي إلى تغيير النظام.
تعاني الحكومة الأوكرانية دَيْنا قدره 13 مليار دولار، معظمه مستحَق لمؤسسات غربية. وقد وافقت الحكومة الروسية على تزويد أوكرانيا بمساعدات قدرها 15 مليار دولار على دفعات لتغطية الدين. لا تضنّ روسيا على أوكرانيا الآن بمساعدات إضافية، حتى تستطيع التعامل بثقة مع الحكومة الناشئة في كييف. كما أعطت أوكرانيا غازا طبيعيا مخفَّض الثمن. ولولا هذه المساعدات، لكانت أوكرانيا في وضع أسوأ.
في تحول نحو أوروبا، كان على البرلمان مناقشة مسألة إعادة تمويل الديون، والتأكد من أن الروس سوف يستمرون في تخفيض ثمن الغاز الطبيعي. إن الأوروبيين ليسوا في موقف سياسي لضمان اكتتاب الديون الأوكرانية. وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي، وإجراءات التقشف في كثير من دول الاتحاد الأوروبي، فإنه من المنتظر حدوث ضجة، إذا حوّلت بروكسل الموارد الشحيحة لدول غير الأعضاء. وبغض النظر عما يمكن أن يظنه البعض، فإن فكرة أن أوكرانيا ستصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي، في ظل الظروف الراهنة، فكرة كئيبة، فالكتلة الأوروبية لديها ما يكفي من الاقتصادات المريضة، على حد وصف الكاتب.
وأوضح فريدمان أن الألمان اقترحوا أن يتعامل "صندوق النقد الدولي" مع المشكلة الاقتصادية في أوكرانيا، مشبّهًا نهج صندوق النقد الدولي في تعامله مع مثل هذه المشاكل بالجراحة بدون تخدير. يمكن أن يظل المريض على قيد الحياة، ويكون بصحة أفضل، لكن الألم سيكون شديدًا. في مقابل أي عمليات إنقاذ، سيطلب صندوق النقد الدولي إعادة هيكلة مالية في أوكرانيا. ونظرًا للأحوال المالية في أوكرانيا، فستكون إعادة الهيكلة المالية المذكورة "عنيفة"، ولذا قد تؤدي عواقبها إلى جولة أخرى من الاحتجاجات، وفقًا للكاتب.
ويعتقد فريدمان أن الروس وافقوا على ذلك الاقتراح، وهم يضحكون على الأرجح، وينتظرون في تؤدة حتى ترجع إليهم أوكرانيا من تلقاء نفسها.
ويتوقع الكاتب أن يقوم البرلمان برفض خطة صندوق النقد الدولي، ويطلب من روسيا تحمل الأعباء على الفور، أو سيتوجه إلى روسيا بعد المعاناة من الألم. إن تراخي روسيا بخصوص الأحداث في أوكرانيا له أسباب، يقول فريدمان، فهم يدركون المعاناة الشديدة التي تواجهها أوكرانيا بسبب الديون، والغاز الطبيعي، والرسوم الجمركية على الصادرات الأوكرانية إلى روسيا. وفي أسوأ الظروف، ستتوجه أوكرانيا باقتصادها المشلول إلى المعسكر الغربي. وفي أحسن الظروف، ستعترف أوكرانيا بمصيرها، وتتوجه إلى روسيا.
ويميل الكاتب إلى الاعتقاد بأن الأوروبيين والأمريكيين ليس لديهم خطة واضحة، فقد انتصروا على حاكم فاسد، وأطاحوا به، ولكنهم بكل تأكيد ليسوا على استعداد لتحمل عبء المشاكل الاقتصادية في أوكرانيا. وبالإضافة إلى تلك المشاكل الاقتصادية، هناك فرص ضئيلة لتشكيل حكومة تخلو من عيوب يانوكوفيتش. وبرغم النوايا الحسنة، لن يقبل الأوكرانيون صفقة صندوق النقد الدولي.
ويعرض فريدمان رأيين له بخصوص الدوافع وراء التحرك الأوروبي والأمريكي. أولًا: تسديد لكمة للروس بسبب مواقفهم العدوانية في العالم، وتذكيرهم بمدى ضعف روسيا. ثانيًا: الحفاظ على حقوق الإنسان بتدخل منخفض المخاطر لتلبية طلب سياسي داخلي.
ويرى فريدمان أنه من الصعب الوثوق بالتفسير الجيوسياسي الذي يشير إلى أنهم قد فعلوا ذلك من أجل الحصول على منصة يمكن من خلالها تهديد روسيا، ورفع مستوى حذرها. لم تكن أيّ من تلك القوى في وضع يمكّنها من حماية أوكرانيا من الانتقام الاقتصادي أو العسكري الروسي، ولا تملك أي منها الرغبة في تهديد المصالح الروسية الأساسية.
تحديات دستورية
ويعاود الكاتب رصده للتحديات السياسية الداخلية في طريق تكوين مؤسسات دستورية داخل أوكرانيا، متسائلًا: هل سيتمكن البرلمان الأوكراني، بمجرد أن يتوقف أدرينالين الثورة المتدفق، من ممارسة الحكم، أم سيسقط في طريق مسدود بين الفصائل، وهو الأمر الذي كان بوسع النظام الرئاسي حله؟ علاوة على ذلك، هل ستقرر المناطق الشرقية وشبه جزيرة القُرْم عدم التعاون مع النظام الجديد، وتمضي قُدمًا في الانفصال، فتصبح مستقلة، أو تنضم إلى روسيا؟.
سيتحدد جزء كبير من السؤال الثاني بالإجابة على السؤال الأول. ففي حال وصل البرلمان إلى طريق مسدود، أو تبنى تدابير معادية للمناطق الشرقية وشبه جزيرة القُرْم، سيصبح الانفصال أمرا محتملا. بطبيعة الحال، إذا ما قرر البرلمان استيعاب هذه المناطق، فليس من الواضح كيف ستختلف الحكومة عن يانوكوفيتش.
ويختم الكاتب تحليله بالقول: "إن القيام بالثورات أسهل بكثير من التعافي منها. وبرغم أن الثورة الأوكرانية لم تكن واسعة النطاق بالقدر الذي تحتاج فيه إلى الكثير من التعافي، فإن الواقع يقول إن أوكرانيا كانت تتمتع بديمقراطية دستورية تم تحطيمها بأيدي الثوار الذين يريدون إقامة ديمقراطية أخرى. إذن، المسألة هي ما إذا كانت النوايا تتماشى مع الواقع أم لا. ليس من السيئ أن تكون متشائمًا بمستقبل أوكرانيا. ولكن ربما هذه المرة سيكون الأمر مختلفًا".
تعليقات
إرسال تعليق